حوار شائق جميل عن ذي الرحم الكاشح
عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رجلًا قَالَ: يَا رَسُول اللَّه، إِنَّ لِي قَرابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُوني، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِم وَيُسِيئُونَ إِليَّ، وأَحْلُمُ عنهُمْ وَيَجْهَلُونَ علَيَّ، فَقَالَ: {لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ المَلَّ، وَلا يَزَالُ معكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلكَ} رواه مسلم.
تأمل في هذه المواجع النفسية والآلآم المُمِضة (أَصِلُهُم) فلا يُقَابِلونَ الصلةَ بالصلة…( أُحْسِنُ إليهم، ويسيئون إليَّ) يقدِّم لهم سُبل الإحسان، فيقابلونها بالإساءة، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، خالفوا هذا الأصل العظيم.
و(أَحْلُمُ) فيجهلون عليَّ.. يُخطؤون فأُبادر بالحلم الذي يجعلني أتغاضى عن هذه الإساءة ولا أقابلها بمثلها.
قدّم هذا الصحابي صحيفة الشكوى وقلبه يعتلج بالآلم.. فماذا كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم …قال له: (إِنْ كنتَ كما تقول، فكأنما تُسفهم الملَّ، ولا يزال معك عليهم من الله ظهيرٌ ما دُمتَ على ذلكَ).
فقوله:(فكأنما تُسِفُّهم المَلَّ)… كأنما تقذف في وجوههم الرماد الحار.. لأنَّ من أشدِّ ما يكون على الإنسان أن يقابله الذي أمامه بخلاف ما يتوقَّع.
يأتي شخص بقبيح الكلام وساقطه ويتهمك بالتُّهم الباطلة ، ويرغب في الصدام معك ويكون في ذهنه أن تقابله بمثل ذلك، فإذا بك تبادر بالإعراض والكلام الحسن ..هذا من أشد ما يكون على هذا الإنسان، حتى كأنما يُقذف في وجهه الرماد الحار، )فكأنما تُسفهم الملَّ(.
#..وأخيراً…تلك الحسنةُ الجميلة قال: (ولا يزال معك عليهم مِنَ اللهِ ظهيرٌ ما دمتَ على ذلك)
لا يزال معك من الله معين..فيكون العون من الله على هؤلاء، عون نفسي، عون مالي، يُسخر الله لك من الخلق ما لا يخطر على بالك.
بل ربما أدار الله الزمان، فيجيء هؤلاء القَطَعَةُ المسيئون لهذا المحسن، يأتون إليه يطلبون الصفح ويستظلون في كنفه، وما يفتح الله عليه من الخير، وتأمَّلوا حال يوسف عليه السلام مع إخوته، قطيعة وأذية، ثم يدور الزمان، فيقولون: ﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾
##..و مَن تأمَّل في غوابر الأحداث، وصفحات الزمان ،سيجد أن الله جل وعلا يُديلُ الواصل المحسن على أرحامه الذين قطعوه وأساؤوا إليه، يجعل عليهم له عليهم الظهور والمكانة العالية واليد العليا المحسنة: (ولا يزال معك عليهم من الله ظهير ما دمت على ذلك).
##..فالصبرَ الصبرَ … ولن تَسْلَمَ من ذي رحم يسيء إليك… وطِّنْ نفسَك على المبادرة بالإحسان..وطِّن نفسَك على هذا الأصل العظيم الذي دلَّ عليه نبينا صلى الله عليه وسلم:{ليس الواصِلُ بالمُكافِئ، ولكنَّ الواصلَ الذي إذا قطعتُ رَحِمُه وصَلَها}…، هذا الواصل الكامل الذي إذا قطعت رَحِمُه وصلها، والقطيعة شأنها قبيحٌ…وفي الحديث الصحيح يقول ﷺ: (لا يدخل الجنةَ قاطعُ رحمٍ.).
اليوم ـــ ولله الحمد ـــ يسَّر الله جل وعلا من أساليب صلة الأرحام ما لم يكن من قبلُ… فإنَّ صلة الرحم لا تعني فقط أن تذهب بقدميك؛ لتزور ذي رحمك، أو أن تستقبله في بيتك، بل إنَّ مفهوم صلة الرحم مفهوم واسع… إنه يشمل الزيارات المتبادلة، و رسالة – عبر وسائل التواصل اليوم من خلال هاتفك.. أومن خلال البريد الإلكتروني – إلى هذا القريب وذي الرحم من الكلم الطيب والدعاء الحسن..، ما يرقق القلوب ويُقربها؛ لأنَّ المقصود في نهاية المطاف من صلة الرحم أن تكون القلوب مجتمعة؛ لأن القلوب المتنافرة حالٌ سيئة، وأسوأ ما تكون إذا كانت بين ذوي الرحم، ….
وقد تكون الصلة بهدية تُرسلها إلى ذي رحمك، قد تكون بدعوته إلى مناسبة اجتماعية، قد تكون أيضًا بأن تدعو له بظهر الغيب، أو بغير ذلك من الوسائل التي توصلك إلى هذا المقصد العظيم.
وأعظم ما يكون من صلة الرحم أن تبادر بتطييب خاطر ذي الرحم القاطع….فما أجملها وما أنداها من كلمة تقولها أو رسالة ترسلها إلى ذي رحم قاطع! فكأنما الجمر المتوقد، سُكب عليه الماء، فأطفأت نار القطيعة واندحرَ الشيطان مذموما مدحورا .
وأخيراً… أذكرك بقول رسولَ اللَّه ﷺ :{ مَنْ أَحبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزقِهِ، ويُنْسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ} متفقٌ عَلَيهِ
فانظر إلى البسط في الرزق يعني كثرته ونماؤه وسعته وبركته وزيادته زيادة حقيقية… مع طول العمر وبركته.
د.أسامة الصَّلابي