من المعروف بداهةً لكل مُسْتَقْرِئ للشريعة عاليَ الكعب في تتبع نصوصها، يجد أن النصوص الشرعية في المجال السياسي قليلة جدا إذا ما قورنت بما هو متوافر في مجال العبادات – مثلاً-
وهذا له دلالات مهمة ،فهو يعطي أمداء واسعة للاجتهاد والاختلاف ، وتباين الطروحات والآراء، فإنَّه كلما ضاقت دائرة النصوص اتسعت مساحة الاجتهاد،والعكس حين تتسع مساحة النصوص تضيق دائرة الاجتهاد،وهذه نقطة مهمة في تأسيس الفهم أو ما يعرف بسياسة العلم.
وبناء على ذلك علينا أن نتوخَّى في حديثنا استخدام التعبيرات والمفردات التي تبينُ بوضوح ما هو رأي واجتهاد يوحي بوجود رؤى شخصية، وأن نبتعد عن التعبيرات التي يفهم منها أننا نتحدث عن حقائق مطلقة أو مسائل بدهية أو قطعية ،وأنَّنَا نملك فيها الصوابية المطلقة ،وهذا يجُرُّنا إلى عدم التفريق بين الحق المطلق وهو الوحي المنزل الذي يحمل دلالة واحدة في بعض نصوصه، وبين الحق الاجتهادي الذي ظهر لنا من خلال دلالات النصوص الظنية .
وقد عقَّب الإمام الجويني رحمه الله تعالى في كتابه ( غياث الأمم في التياث الظلم ) على الإمام الماوردي رحمه الله تعالى فيما صنعه في كتابه ( الأحكام السلطانية ) حيث إنه لم يراع هذا المعنى في طريقة صياغته وعرضه للمسائل السياسية الشرعية في ذلك الكتاب. ..إنَّه -كما يقول الجويني – (ساق الظنيات في مساق القطعيات وفي هذا تحميل للأمور أكثر ما تحتمل).
وهذه ملاحظة ذكية جدا، وأتمنى بل أرجو أن ننتفع بها في مجادلاتنا اليوم وحوارتنا …فالأفكار لا تنضج إلا إذا لاكتها ألسنة المناظرة .
ومن هنا تبرز أهمية الحوار في مساحة الاجتهادات والرؤى الشخصية،فمن خلال الحوار نمحص الفكرة بالفكرة والمقولة بالمقولة…ونمنح الأفكار مساحات جديدة، كما نحرم بعض الأفكار من امتدادات غير مشروعة.
يجب أن نؤمنَ بالقصور الذاتي لكلِّ واحد مِنَّا ، لنكبح جموح الاعتداد بالذات و غلواء التعصب الأعمى.
نحن دائما نسمع عن قيمة الحوار والتثاقف بين المختلفين ،لكنَّ الحقيقة التي يجب ألاَّ تغيب عنا أن الحوار ليس شعارًا نرفعه، أو شيئًا تزيينِيًّا نتجملُ به، وإنما هو مصدرٌ لتغير الأفكار وتنمية الاتجاهات،وإزالةُ الأوهام ،وأساسُ التعايش لإرساء السلم الاجتماعي .
د.أسامة الصلابي