حسم ما لا يقبل الحسم

 

من مشاكلنا في إدارة شؤوننا الخاصة والعامة،عدمُ معرفتنا بطبائع الأشياء لكي نحسن التعامل معها ،وعندما أقول طبائع الأشياء فهذا يعني أننا لا يمكن تغيير طبيعة الشيء….فعندما أقول أنَّ طبيعة النار الإحراق ، فلا يمكن تغيير طبيعتها ، لو حاولنا تغييرها لصارت شيئا آخر…من الوعي بطيعتها أن نحسن التعامل معها والاستفادة منها ، قل ذلك في مناحي الحياة كلها،في العقول والأذواق والآراء.
واليوم ..الكثير من القضايا يدور حولها جدل كبير للوصول إلى رأي حاسم فيها. وللأسف نجد النتيجة، استهلاكا للأوقات، و تعكيرا للمزاج ،فسادَ في ذات البين ….ثم لاشيء .
وتأسيسا على ما ذكرتُ ..يجب أن ندرك أنْ هناك أمورا لا سبيل إلى التوافق أو الترجيح فيها،وهذا يحتم علينا أن نتجنب الإيغال في نقاشها والحسم فيها…من ذلك مثلا:
ـــ النوايا والمقاصد… التي لا يعلمها إلا الله تعالى…وهذا موضوع يكثر فيه الجدل واللغط حول التشكيك في النوايا.
فلان نيته كذا، ويقصد كذا،وهذا حاله ،فلان وفلان…وهكذا..وكأن أحدَنا يعلم خفايا وخبايا النفوس وما تخفي الصدور ، ويحكم بالحسم المطلق كأنه أُوحيَ إليه من السماء.
نبيُنا صلى الله عليه وسلم أحب أن يسدَّ باب اتهام النوايا وإيجاب معاملة الناس على ما يظهر من أعمالهم، وتفويض سرائرهم إلى الله تعالى.
فقد صح أن أسامة بن زيد أمضى خلف رجل كافر في إحدى المعارك، فلما تمكّن منه قال الرجل: لا إله إلا الله، فطعنه أسامة بالرمح حتى قتله، فلما بلغ رسول الله قال: ياأسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله ؟..!..قال أسامة: إنما قالها متعوذاً )أي خوفاً من القتل(…قال النبي: أقال لا إله إلا الله وقتلته؟! أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟!.قال أسامة: فمازال النبي يكرّرها حتى تمنيت أن لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
ويدخل في ذلك أيضا الذوقيات والاختيارات الشخصية، هي الأخرى غير قابلة للحسم…فلان يحب اللون الأبيض وغيره يفضل الأزرق ، البلد الفلان له ذوقه وآخر له اختيارته ، وقل ذلك في شؤون الحياة كلها .
فعلينا إدارك ذلك حتى لا نختلف تصادميا وتعانفاً في أمور يصعب قول الكلمة الفصل فيها.
ووأيضا..هناك جزئيات كثيرة وفروع لا حصر لها في مسائل عِدة تتصل بالتاريخ والفلسفة والسياسة والمواقف ، والتحليلات السياسية، يحدث فيها كثير من النزاع……ويكون التوافق عليها في العادة أشبه بالمستحيل.
وكل من يحاول توحيد الآراء والمواقف ، ظناً منه أنه يوحّد الصفوف، أو يحسّن مستوى التوافق، فهو يصادم الناموس العام والسُّنة الماضية في هذه الأمور، التي جعل الله طبيعتَها تأبى الحسم فيها لرأي واحد ، لأنها منطقةٌ في الأساس مناط تباين الآراء ووجهات النظر، ولذا فالأولى هو صرف النظر عنها، لحسمها، و لا نحاول حسم ما لا يقبل الحسم.
خلاصة القول :
ميسم الابتلاء في هذه الأمور هو كيفية إدارتها والتخفيف من حِدَّتها ،وتكثيف الجهود دائما والتركيز على الانحياز للحياة وفن إدارة التعايش والاعتراف بالآخر،والابتعاد عن الاتهام والشيطنة لك من يخالفنا…وإلَّا صارت الحياة كلها قائمة على المناوئة والضراوة والخصومة المفرطة والصدام ، وتبدأ الحياةتتأكل وتفقد رونقها وجمالها….ويخسرُ الجميع..ونندم ولات حين مندم.