الفقه… السابق واللاحق

المتأمِّلُ في بنيةِ الشريعةِ الإسلاميةِ يجد أَنَّ فيها حوافزَ جلية تدعو إلى الاجتهاد والنظر.. وقد تكون هذه الحوافز ظاهرة وقد تكون خفيةً…فمنها على سبيل الذكر لا الحصر :
جاء في الحديث (( إذا حكَم الحاكمُ فاجتَهَد ثمَّ أصاب فله أجرانِ وإذا حكَم فاجتَهَد ثمَّ أخطأ فله أجرٌ)).
ولأنَّ معظم نصوص الكتاب والسنة ظنية في دلالتها على المراد،وتحقيق المراد على سبيل القطع غير ممكن،فإنَّ مجال الاختلافِ في إدراك المقصد، وفهمِ المراد من النص يظل ميدانا لاحبا واسعا رحباً.
وبالطبع هناك ما لا يختلف باختلاف الزمان والمكان من الأوضاع والأحوال فقد تناولته النصوص تناولا مُفّصَّلاً كما هو الشأن في العبادات.
أما ما يختلف باختلاف الزمان والمكان، فقد تناولته النصوص تناولا مجملا.
و يمكننا القول أنّ الأمور التي قلّت فيها النصوص وجاءت على سبيل الإجمال فالاجتهاد فيها واسع، وأما ما كثرت فيه النصوص فالمقصد تضييق الاجتهاد فيها لأنها لا تخضع لتغير الزمان والمكان.
وهذ نجده في كثير من القضايا الاقتصادية والإدارية والسياسية،والعادات.
ماذا يعني ذلك؟…
يعني أن على أهل كل زمان أن يجتهدوا من أجل توفير غطاء فقهي لنوازل زمانهم، ولا يكتفوا بأقوال المتقدمين واجتهاداتهم وقبولها على سبيل التسليم ،فإننا لن نجد ما يُسْعِفُنَا في كثير من القضايا والنوازل إلا على سبيل الأشباه والنظائر، وقد لا نجد شبيها ولا نظيرا…
وإلا فالاجتهاد هو السبيل لفقه المستجدات ونوزال العصر،لاستعياب الزمان والمكان الذي نعيش فيه مسترشدين بهداية الوحي ،وبالاجتهاد الواعي المؤصَّل،وهذا هو الذي فعله فقهاء المسلمين.
وقد أطلق البعض مقالة غريبة، وجعلوها قاعدة عامة في تقويم دراسات المعاصرين ومؤلفاتهم،و أعدموا بها كلَّ اجتهاد جديد معتبر ،وشنَّعوا على كل من يخالف تلك المقالة، وهي قولهم : «ما تَرَكَ الأول للآخر!».
إنهم ينفون بهذا القول إمكانية إضافة أحدٍ من المعاصرين، لأن السابقين لم يتركوا لهم شيئاً .
ولذلك لا يُجيز أحد هؤلاء لنفسه أن يقرأ للمعاصرين من أهل الفقه والنظر، ، وإذا سُئل عن هذه آراءهم انتقصها وردها، ونصح بعدم تضييع الوقت في قراءتها، وجهَّل أصحابها، واتهمهم في علمهم وأصالتهم … واعتبرهم مجرد ناقلين لعلم وكلام السابقين.
وهؤلاء ظالمون للسابقين في هذه النظرة – مثل ما أنهم ظالمون -للمعاصرين .
لذلك يجب علينا أن نُصَحُحَ المقولة الخاطئة «ما ترك الأول للآخر!»….نُصححها بوضع كم الخبرية التكثيرية، مكان «ما» النافية…فنقول: «كم تَرَكَ الأولُ للآخرِ »، أي ترك الأولون للآخرين الكثيرَ الكثيرَ.
بل إننا نقرر أن بعض المعاصرين كان أنفذ بصراً، وأعمق بحثاً، وأغزر علماً، وأحسن عَرْضاً، من بعض السابقين.
إن قيمة الكتاب ليست في قِدَمِه، بل في تفرده وأصالته وإضافاته.
وإن علم العالم لا يكمن في أسبقيته الزمنية، بل في عودته إلى «معين» علم السلف الصالح، وموافقته للحق، وتجاوزه للنقل والتقليد…… (و كَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلآخِرِ ! .)
إن الصحابة رضوان الله عليهم – وجدوا أن ما أخذوه عن رسول الله ﷺ في مسائل العمران وإدارة شؤون البلاد – مثلا – غير كاف لزمانهم، فاجتهدوا.
وبعد عصر الصحابة وجد التابعون أن ما تركه الصحابة – رضي الله عنهم – من الفتاوى والأحكام ليس كافيا لتغطية ما استجد من أوضاع، فاجتهدوا كذلك.
وهكذا فعل تابعوهم، ومن تَبِعهم، وهذا ما ينبغي أن يفعله الفقهاء وحملة الشريعة اليوم .
وهذا يتناغم مع حركة الحياة ، حيث لا تتسع معارف ونظم ومفاهيم مرحلة سابقة لمرحلة لاحقة.
د.أسامة محمد الصَّلَّابيِ