التنوع مصدر للقوة

(أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الآية13الحجرات.
الحكمة من وراء تنوع أجناس الناس وأعراقهم هو التعارف والتبادل والتأثير والتأثر…بحيث يكون مصدرا للنهوض المشترك بالمصالح العامة…وإذا فُهِمَ غير ذلك سيكون نقمة ومصدراً لخصومات وشقاقات ،وتشظي لا تحمد عواقبه .
ونلاحظ في الآية أنَّ الله حدد وحصر مقياس التفاضل بيننا وحصره في (التقوى) بمعناها الشامل ..وهو بذلك يوضح لنا الأرضية المشتركة التي يمكن للجميع أن يقفوا عليها ؛ .فـ ( التقوى) مضامينها ومقتضياتها ترتكز إلى على المنهج الرباني والمبادئ العليا والأصول الكبرى…و لا تقبل التفاوض ولا التنازع.
أما التنوع الثقافي والتلوينات المختلفة كاختلاف اللغات والأعراق والأجناس والألوان والطباع والمواهب والاستعدادات، فهذه خصوصيات تحملُ أهميةً نسبية ، والمبالغة في تمجيديها والاعتزاز بها ،وتقديمها في سلَّم التفاخر هذا أمر لا يستند إلى شيء مطلق، فكل أصحاب لغة – مثلاً – يرون في لغتهم ما لا يراه الآخرون فيها،وأنَّ أنسابهم أفضل الأنساب ،وأعراقهم أنصع عرق ،وهذا شرقاوي وهذا غرباوي…وهكذا يقعون في قعر منتنة ،تزكم الأنوف وتعكر صفو الحياة وتصيبها بالعفونة كما وصفها الحديث النبوي (دعوها فإنها منتنة )….
وربما يجتمع هؤلاء مع من يزدرونهم في جدهم الأعلى قد يكون فرعون أو النمرود ،ومايدريهم …
ولذلك حسم النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعاير الأرضي بقوله :(أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ)..( كلكم لآدم وآدم من تراب)
نقطة من أول السطر.
هذا التنوع الثقافي ينبغي التعامل معه أنه نعمة ، نتخذها مصدراً للثراء وتبادل الخبرات والتعاون والنهوض المشترك بالمصالح العامة..كل ذلك منة خلال النظرة القرآنية.
وهذا يقتضي أمرين :
الأول: ألا يعتز الناس بأنسابهم وأعراقهم وألوانهم … ويغالوا في تمجيدها، فيكون ذلك على حساب محك (التقوى) .
لأنَّ ذلك يعزلهم (ولو شعوريا ) عن المحيط الذي يعيشون فيه ، ويصبح ثغرة في حياتهم، وينمي فيهم معايير غير صحيحة ولا منطقية تعوقهم عن مسايرة حقيقة الأشياء ،فيقتاتون على وهم المفاخرة بالأنساب واستدعاء حكايات الأجداد التي لا زمام ولاخطام (خرَّاف)يبنون عليها حاضرهم ومستقبلهم ،وهذا ما نجده لدى عدد من الشعوب المتخلفة.
ثانيا :لا يرغم أحدٌ على التنازل عن خصوصياته الثقافية ، لأن ذلك ليس له أساس من عقل أو دين….وهذا ما فعله المسلمون أثناء حركة الفتوحات؛ إذ لم يُرغم أحد على ترك لباسه أو تغيير اسمه، أو التكلم بغير لغته، أو التخلي عن عاداته، ما لم يصطدم ذلك بتعاليم الدين الحنيف القطعية وثوابت الإسلام.
وقد عزز الإسلام ذلك من خلال التوجيه بالاعتراف للآخرين – ولو كانوا أعداء – بما لهم من ميزات وخصائص حتى نتجاوز الحساسيات النفسية، ونكون مستعدين للاستفادة والاقتباس وفي هذا يقول الله – جل وعلا -: ((وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ )).

وقال (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8))) .المائدة.

ولا يمكن أن نصل إلى التوازن الثقافي من خلال التناحر والانقسام، وإنما من خلال الاقتباس والتفهم لما عندي وعندك ..وننحاز إلى الحياة بدل الرغبة في الإطاحة ببعضنا.
النتيجة المترتبة على هذين الأمرين، وعلى تحديد (التقوى) قاسماً مشتركاً، هي العمل على ترشيد حركة التبادل الثقافي ضمن الجماعة الواحدة والأمة الواحدة..بمعنى أكثر وضوحا أن نعترف بالتنوع لكن في إطار الوحدة…فالتنوع قوة ومصدرٌ للنهوض.
د.أسامة الصلابي