الاضطراب في المواقف
الحقائق لا يمكن رؤيتها مرة واحدة ،فقد جعل الله نضج الوعي البشري يأتي على مراحل من التجارب والخبرات العالية ،فرؤانا ومواقفنا تتغير تبعاً لتغيِّر الظروف والمعطيات، وهذا هو السبب الذي يُشَكَّل الاضطراب مواقف كثير من الناس.
هذا الاضطراب ناتج عن غموض الرؤية والحيرة في تصنيف كثير من الأشياء، ولذلك ينبغي أن تكون في منظومة تفكرينا أهمية الاستدراك والابتعاد عن التصلّب الذهني في المواقف لنؤسٍّسَ ثقافة النقد والتقييم ومن ثمَّ التصحيح دون أي مواربة أو قلق.
والمتأملُ في اضطراب المواقف يجد الأسباب الرئيسة منحصرة في التالي :
أولا: غلبة الهوى ، والشعور الرغبوي ، وهذا ليس نادراً في الناس،وقلّما ينجو منه أحدٌ أو يكاد، فقد يحبّذ الإنسان الشيء لأنَّ له فيه مصلحة شخصية، فنحن في غالب الأحيان نحبذ القول الذي يوافق أمزجتنا،كالمتشائم حين يصدّق الأخبار السيئة،والمتفائل حين يحتفل بالأخبار السارَّة. إنَّ التحرر من ذلك يدفعنا نحو التراجع والتغيير ومن ثمَّ التصحيح.
ثانيا: مادام الإنسان قاصراً في فهمه ويخضع في كثير من الأحيان لرغباته فإننا نستطيع القول أن كلَّ النظم التي وضعها البشر مصابة بالقصور الذاتي ، فالقاصر لا يصنع كمالا. ولن تتوقف حركة النضج في الإنسان، والأمثلةُ على هذا أكثر من أن تُحصى،فقد رأينا كثيراً من الملحدين والمتطرفين والغلاة والمنحرفين… يعودون إلى رشدهم حين تتقدم بهم السن..لماذا؟!الإنسان كلَّما نضج أكثر مضى نحو الاتزان النفسي والعقلي، وغلب عليه الاعتدال والهدوء، والقدرة على تحليل الظواهر واستبانة الحق بحكمة ورَوِّيَة وصبر و تُؤَدَة.
ولذلك لا ينبغي أنْ لا يُنتقد إنسان رجع عن رأيه حينما استبان له الحق فقد صحَّ عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (مَن حَلفَ على يَمينٍ، فَرأى غيرَها خيرًا منها فَلْيأتِها، ولْيُكفِّرْ عَن يمينِه)وهو توجيه نبوي في عدم الإصرار على السير في سبيلٍ غير محمود.
وللأسف من الأنماط المنتشرة في حياتنا اليوم نجد من ينتقدُ العالمَ إذا ثبت على أفكاره وآرائه وتوجّهاته، ويَعُدُّ ذلك نوعاً من الجمود ونوعاً من العزلة عن تيار الأفكار الجديدة، وإذا طوّر العالِمُ رؤيته أو فتواه أقام عليه الدنيا، واتهمه بالتمييع والتذبذب والخضوع للمغريات والفتن وأنه باع دينه لهذه الجهة أو تلك!. ويغيب عن هؤلاء أنّ الاستدراك من طبيعة البشر ما داموا أحياء .
- وللخروج من هذا الداء الذي نتج عنه تعانف بين الناس ،علينا عمل العديد من الأمور، منها:
مادام الوقوع في الخطأ شيئاً مألوفاً جداً، فينبغي أن تكون التوبة أيضاً شيئاً مألوفاً، والتوبة لا تكون من الذنوب فقط ، بل أيضا تكون بالرجوع عن الرأي البعيد عن الصواب الناتج عن الجهل والعناد أو الاصطفاف. - التخفيف من الحماسة للأفكار والآراء والمواقف الاجتهادية؛ إذ إن خطأها قد يظهر في أي لحظة، ويكون علينا حينئذ التراجع عنها بوضوح وجرأة.
- العمل على أن يمتلك كل واحد منا رؤية نقدية للقضايا الكبرى التي تمسّ حياة الأمة، وحياته الشخصية، فالنقد هو عمل تكميلي للأفكار والطروحات .
فإن كل ما نطرحه من أفكار ورؤى وخطط… يظل ناقصاً وفجاً مالم يظفر بنقد قوي ومنهجي.
وقد أرسى القرآن الكريم مبدأ عظيماً في حياة هذه الأمة، وهذا المبدأ يقرر أنه لا ينبغي أن يكون في المجتمعات الإسلامية أي شخص فوق المُساءَلة، وإلاّ تحوّل إلى مظلة يستظل بها الفاسدون. لقد عاتب الله نبيه- وهو الكريم عند ربه – على بعض مواقفه واجتهاداته ،فما بالك بمن دونه بكثير.
وأخيرا:
يجب علينا أن نعزز ثقافة النقد و الاستدراك الواعي فهي ثقافة النمو والإصلاح والتقدم، فالأمم المتخلفة تتترس بالآبائية بالمطلق (إنا وجدنا آباءَنا على أمةٍ وإنّا على آثارِهم مهتدون)تقاوم كل تغيير للأنماط التي ألِفوها، وتنظر إلى المراجعات والتصحيح نظرة استخفاف أو استهجان… ومن ثمّ فإن الاستمرار في الخطأ والجمود على الموروث يكون هو سيد الموقف في حياتهم ولك أن تعرف المستقبل بعد ذلك .
د.أسامة الصَّلابي