سيكولوجية الطاعة ..(أنا عبدٌ مأمور)
قدَّم لنا القرآن نموذجا فريداً لظاهرة الطغيان وإذلال الناس في نموذج متجدد عبر كل زمان ومكان … متمثلا في الطغيان الفرعوني.
ومما استوقفني في هذه القصة القرآنية العجيبة تلك الطاعة المطلقة من جماهير الناس لفرعون ولاسيما الأتباع والجنود ….وإنَّك لتتعجب لطاعة مطلقة دون تفكير أو تروي أو نظر في العواقب حتى أوردهم الفرعون الموارد المهلكات (وأضلَّ فرعونُ قومه وما هدى)وهنا توقفت متأِّمِّلا …كيف استطاع فرعون أن يصل إلى ما وصل إليه من إخضاع الناس فجعلهم كالعبيد مسلوبي الإرادة و الإنسانية؟
وما الطرائق التي سلكها ؟كيف لبشر يسمح لنفسه أن يعيش ذليلا مهانا لأجل راحة بشر آخر مثله؟
فوجدت أن القرآن نصَّ على بعضها والتي منها:
الأمر الأول :الاستخفاف بالناس والتأثير في عقولهم خاصة عند من يضعف يقينه ﴿فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُۥ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فَٰسِقِينَ﴾استخفاف الطغاة بالناس أمر لا غرابة فيه ، فهم يعزلونهم أولاً عن كل سبيل موصلٍ للوعي والمعرفة والنضج ، ويقيمون حُجُبا عن الحقائق حتى ينسوها ، ولا يعودوا يبحثون عنها .
ولايملك الطاغية القدرة على ذلك إلا بعد أن ينشر الفسق والفجور بين الناس فلا يستقيمون على طريق ، ولا يمسكون بحبل الله ، ولا يزنون بميزان الإيمان.
ولذلك تجد الطُّغاة الظلمة يحرصون عن نشر الرذيلة و التَّسَفُل وحراستها حتى يألفها الناس ويتعاطونها دون إنكار،ويحارب كل فضيلة ويعاقب أهلها ويسومهم سوء العذاب…فإذا فسق الناس استبد بهم وتحكم في مصائرهم .
الأمر الثاني: يقوم الطاغية باستعباد الناس عبر آلية توزيع المهمات بحيث يتحمل كل واحد جزء قليلا من المهمة فإذا سئل أحد يشارك في مهمة خاطئة قال أنا عبد مأمور لا تسألني
فعبر فكرة توزيع الأدوار، وتقسيم المسؤوليات، فواحد منهم مهمته أن يحصي العصاة والمخالفين لأمر الطاغية في قوائم ومنظومات …وآخر يرصد البيوت ويراقبها.. وثالث يقوم بحراسة السجن.. ورابع ينقل الناس من بيوتهم إلى السجون وخامس يقوم بالمحاكمة وهو يعلم أن هذا قتلٌ بغير حق وبغير شرعية، وبغير إذن من الله.
وكل واحد من هؤلاء يقول بأنه عبدٌ مأمور وينفذ الأوامر.
ولن تَعْدَمَ في أي أمة أو شعب من الشعوب أن تجد أناسا فقدوا الضمير فصار عندهم الاستعداد لأن يقوموا بهذه المهام وبفخر وعبودية للطاغية.
هذا ما كان يعمله فرعون يوزع الأدوار بطريقة تجعل كل أحد يشعر بأنه جزء من ماكينة كبيرة جدا ويقوم بمهمة ..قد تبدو بريئة في نظره.
لكنَّ هؤلاء الأتباع العبيد لا تعفيهم تبعيتهم من العقوبة والمسؤولية﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾.
فلو تخلَّى هؤلاء الجنود التابعون عن نصرة طغيان فرعون ،ولو تمرد عليه مستشاروه ما طغى .
فالبطانة الصالحة تؤدي دورا كبيرا في التأثير والإصلاح والعكس يعطي المشروعية للظالم وغير مقبول أن يتحجج الإنسان (بأنَّه عبدٌ مأمور (بل يجب أن يشعر الإنسان بمسؤوليته، وأن لا يفعل ما يفعل من أجل وظيفة أو من أجل منصب إعلامي، أو من أجل شهرة أو سمعة، أو حفاظا على مكانة أو طمعا في المستقبل، أو أي اعتبار أو مصلحة يجب عليه أن يتأسى بموسى عليه السلام ﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ﴾فإذا لم تقل الحق، فلا تقل الباطل وإذا لم تفعل الصواب، فلا تفعل الخطأ….. وثق بأن الله سوف يحفظك.
كم رأينا في أعمارنا القليلة والقصيرة؟ من أناس تزيَّنوا ونافقوا ودافعوا عن الباطل ثم رأوا في حياتهم الدنيا كيف أن الله سبحانه أبعدهم ولم يحصلوا على نقير ولا قطمير مما كانوا يحلمون به.
وكم رأينا من أناس تحملوا وصبروا وصبروا وانجلت الغمة، وزالت المعاناة وعاد لهم أفضل مما كان يرجون ويتوقعون، فالرزق عند الله، والعطاء عند الله، والدنيا والآخرة عند الله﴿ فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزْقَ وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُواْ لَهُۥٓ ۖ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
والنجاة من الفرعونية والتبعية لها تكون بالإيمان بأنه لا رزق ولا مال، ولا منصب، ولا أي سبب من أسباب كاف بأن يجعل الإنسان يقف في صف الظالمين وأي أعذار أو تبريرات يسوقها الأتباع لا تعفيهم من المؤاخذة في الدنيا والآخرة ….فالله سبحانه ذكر صنفين من أهل النار في مواضع كثيرة صنف المستكبرين، وصنف المستضعفين وحكى الله تعالى الحوار بين الضعفاء والمستكبرين إذ قالوا ﴿ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ۖ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ﴾
وقال أيضا ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ قَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَٰلَهُمْ حَسَرَٰتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ﴾ ..وقال أيضا: ﴿ ( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ ( 67 ) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ( 68 ) )﴾ ويقول سبحانه ﴿حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ۖ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ﴾
تأمل هذا الحال من التناكر والاتهام يتهم بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا..( قال لكل ضعف ، ولكن لا تعلمون) لكم ولهم جميعاً ما طلبتم من مضاعفة العذاب.
فاللهم إليك المشتكى وأنت المستعان و لاحول و لا قوة إلا بك.
دأسامة الصَّلابي