المدينة التي فقدت الميزان ،وأضاعت البوصلة ،أما آن لها أن تفرح
المدينة التي كان يضرب بها المثل في نسيجها الاجتماعي ، ومكوناتها المتناغمة ،المدينة الحيوية الجميلة المزدانة بتنوعها.
بعد كل هذه السنين مُكر بها ، وطعنت في خاصرتها ، فنزفت الدم المدرار من أبناءها ، ورُفِعَت النعرات ،فدحست وغبرت (داحس والغبراء)، فابتلعتها فتنة عظيمة ذاق ويلاتها أهلها.
وها هي اليوم تستفيق من غفلتها ببطء شديد ، ولا ألومها فالجرح عميق سحيق غائر ، لكنها تتمالك وتتماسك ، وتنظر إلى ماضيها الجميل وحاضرها الممزق لتستشرف مستقبلها المشرق الواعد ، تنادي أبناءها البررة بها،الذين سالت الدماء بينهم ، وتذكرهم أن عودوا إلى حضن أمِّكُم الرؤوم، وتذكروا قول الشاعر :…
وفرسان هيجاءٍ تَجيشُ صُدورُها …بأحقادِها حتى تضيقَ دُروعُها
تُقتِّل من وِتر أعزَّ نفوسِها ….عليها بأيدٍ ماتكادُ تُطيعُها
إذا احترَبَتْ يومًا ففاضت دماؤها …تذكَّرتِ القُربى ففاضتْ دُموعُها.
لقد أنضجتنا الأيام ،وعركتنا المصائب ، وخسر الجميع ، وجاس الغرباء خلال الديار ، ومزقوها شر ممزق، ولايزال فيها رمق من حياة ، تستغيث بأبناءها.
وَعْيُنا اليوم ضرب ماتبقى لخصوم الوطن من عناوين الزيف والتضليل،والإرجاف.
أما آن لميزان المدينة أن يعتدل،أما آن أن نجعل العدل شعارا والقسط دثارا، ونكفكف الأوجاع ، وننصف المظلومين المستضعفين .
(والسماء رفعها ووضع الميزان ألّا تطغوا في الميزان)
ميزان بنغازي في عودة المهجرين إليها ،ولن ترتاح مادام هناك ظلم أناخ عليها بكَلْكَلِه ، و جثم عليها بعنفوانه.
وأول الغيث رفع الظلم ورد الحقوق إلى أبناء المدينة الواحدة ،وإرجاع ممتلكاتهم بالعدل والإنصاف ثم تتبعها خطوات خطوات .
ويح قومي هل صار الروانديون خيراً منا …الذي تقاتلوا ومات منهم ثمانمائة ألف إنسان .
ألا فلنبدأ جميعا ،ولنتواصل لوضع حجر أساس لمستقبل مشرق رشيد قائم على العدل والإنصاف .
اكتب هذا الكلمات وأنا الذي فقدت ابني محمد وهو ابن الستة عشر ربيعا ، وأصيب ابني الآخر عبد المجيد في حرب طرابلس وهو ابن السبعة عشر ربيعا وبترت ساقه ، وحرق بيتي ومكتبتي العامرة التي قضيت في تكوينها خمسة عشر عاما أو يزيد .
ومع ذلك يهون كل شيء .
أما آن لنا أن نفرح ،أما آن لهذه المدينة أن تفرح.
بلى قد آن وحان .
نضيء شمعة خير من أن نلعن الظلام .
د.أسامة محمد الصَّلابي